4- دفع الخواطر والوساوس :
هذا أساس العلاج وبيت قصيد الدواء، وهو اجتثاث الأمر من جذوره، والوقاية خير من العلاج، ذلك أن الذي يمارس هذه العادة إنما ينجرُّ إليها تسوقه خواطره وأفكاره والخيالات التي يتصورها في ذهنه، فهي التي تحرك من شهوته ما يدعوه إلى ممارسة تلك العادة، لذلك كان من أهم وسائل العلاج الاهتمام بالخطرات والأفكار .
وفيما يلي تحليل دقيق في نصوص من كلام للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، يبين السبب ثم العلاج، يقول رحمه الله في كتاب الفوائد ] ط.دار البيان ص 306 [ مبيناً مراحل تطور المعصية : " مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها " .
" واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها " .
" فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك، اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً، ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد " ( العادات ) .
وبعد هذا يأتي العلاج، قال ابن القيم - رحمه الله - : " فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها، صاعدة إليه، دائرة على مرضاته ومحآبّه فإنه سبحانه به كل صلاح ومن عنده كل هدى .." فإذا كان العبد يستشعر بأن الله رقيب عليه، ناظر إليه، شاهد له، مطلع على خواطره وإرادته وهمّه " فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطَّلع منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله أو يرى في نفسه خاطرا يمقته عليه " .
ومن العلاج كذلك قوله - رحمه الله - : " ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر، ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه بها، ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه، كما قال الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حُمَمَةً (فحمة)، أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: " أو قد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم قال: " ذالك صريح الإيمان " .
وعن علاج آخر يقول: " فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون مالا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر ومن فكَّر فيما لا يعنيه "أي: ما لا صلاح له ولا خير في دنياه وآخرته " فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه في نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها، أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قُربه ورِضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه، وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في أمره إلا كذلك " .
ويقول أيضاً عن علاج الخطرات: " وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال، وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته " .
وهذه النفس لا يمكن أن تخلو من الخواطر، وهذه الخواطر هي التي توجه النفس، يقول - رحمه الله- : " وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولابد لها من شيء تطحنه، فإذا وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الْحَب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حَبّا يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه " .
والشيطان حريص كل الحرص على الإتيان بالخواطر والأفكار السيئة المحرمة إلى صدر الإنسان، فما الحل ؟
الجواب:
" إياك أن تمكِّن الشيطانَ من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويُلقي إليك أنواع الوساوس ولأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب، فأتاه شخص معه حِمْل تراب وبَعْر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونه، فإن طرده ولم يُمكِّنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه، وإن مكَّنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً " .
هذا بعض كلام ابن القيم - رحمه الله -، وهو كلام يهمنا في علاج مسألتنا على النحو التالي :
يجب على المسلم منع الشيطان من إلقاء الخواطرِ والأفكارِ التي تدفعُ إلى تلك العادة كتخيل صورةٍ عاريةٍ أو أوضاعٍ محرمةٍ وشاذةٍ، فهذه التي تهيج النفس على الوقوع في السوء .
إذا أتى الشيطان بها وتسلل، فلابد من طردها وإبعادها وعدم الاسترسال فيها خصوصاً وأنَّ تصوُّر شخص معين في الذهن في وضع محرم مع تمني الوصول إليه بالحرام وأنه لو كان عنده لفعل معه ذلك الأمر المحرم، فإن هذا يعتبر عملاً قلبياً يُخْشَى على صاحبه، وليس مما يُعْفى عنه من حديث النفس لأنه تضمن نيةً جازمةً وعزماً على فعلِ الحرام .
لابد من مزاحمة تلك الخواطر الرديئة بأفكارٍ وخواطرٍ حسنةٍ كالتفكير في أعمال الخير وأنجح السبل لتحقيقها، والتفكير في آلآءِ الله ومخلوقاتِه، ومُحاسبة النفس، والتفكير في المسائل العلمية، وفهم استنباطات أهل العلم، والتفكير في أوضاع المسلمين وطريق الخلاص ، وكذلك سبل تحصيل الرزق الحلال وهكذا.....
ولا شك أن صرف الذهن عن الأفكار الرديئة إلى التفكير في وسيلة دعوية أو قضية تربوية أو مسألة علمية....، هو حماية للنفس من الوقوع في مثل تلك التُرَّهَات .