فوائد الذنوب
[center]فوائد الذنوب
( حكمة الله في أقضيته وأقداره )
للإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى
مشاهدة حكمة الله في أقضيته وأقداره التي يجريها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي من ألطف ما تكلم فيه الناس وأدقِّهِ وأغمضِهِ.
وفي ذلك حِكَمٌ لا يعلمها إلا الحكيمُ العليمُ سبحانه، ونحن نشير إلى بعضها:
فمنها: أنه سبحانه يُحِبُّ التَّوابينَ، حتى إنه من محبته لهم يفرح بتوبة أحدهم أعظم من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامهُ وشرابهُ في الأرض الدَّوَّيَّةِ المُهلِكَةِ إذا فقدها وأيِسَ منها(1)، وليس في أنواع الفرح أكملُ ولا أعظمُ من هذا الفرح ولولا المحبة التامة للتوبة ولأهلها لم يحصل هذا الفرح.
_____________
(1) كما رواه مسلم (2744) عن أبن مسعود. والدَّوَّية: المفازةُ الخالية.
ومن المعلوم أن وجود المسبب بدون سببه مُمتنعٌ، وهل يوجدُ ملزومٌ بدون لازمه، أو غايةٌ بدون وسيلتها؟!.
وهذا معنى قول بعض العارفين: ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه.
فالتوبة هي غاية كمال كل آدمي، وإنَّما كان كمالُ أبيهم بها، فكم بين حالة وقد قيل له:{ إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى } وبين قوله:{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } فالحالُ الأَوَّلُ حالُ أكلٍ وشربٍ وتمتُّعٍ، والحالُ الأخرى حالُ اجتباءٍ واصطفاءٍ وهدايةٍ، فيا بُعْدَ ما بينهما! ولمّا كان كمالُهُ بالتَّوبَةِ كانَ كمالُ بنيهِ أيضاً بها، كما قال تعالى:{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }[الأحزاب:73].
فكمالُ الآدميِّ في هذه الدَّارِ بالتَّوبَةِ النَّصُوحِ، وفي الآخرَةِ بالنَّجاةِ منَ النَّارِ ودخولِ الجنَّةِ، وهذا الكمالُ مُرتَّبٌ على كمالهِ الأوَّل.
والمقصودُ أنَّهُ سبحانهُ لِمحبَّتِه التَّوبَةَ وفَرَحِة بها يَقْضي على عبدهِ بالذَّنبِ، ثمَّ إِنْ كانَ ممَّن سَبَقَتْ له الحسنى قضى لهُ بالتَّوبَة، وإنْ كان ممَّن غلبت عليه الشقاوةُ أقامَ عليه حُجَّةَ عَدلِهِ وعاقَبَةُ بذنبه.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يتفضل عليهم، ويُتِمَّ عليهم نِعَمَهُ، ويُريهم مواقع برَّهِ وكرمهِ، فلمحبَّتهِ الإِفضالَ والإِنعامَ يُنَوَّعُهُ عليهم أعظم الأنواع وأكثرها في سائر الوجوه الظاهرةِ والباطنةِ.
ومن أعظم أنواع الإحسانِ والبرَّ أن يُحسِنَ إلى من أساءَ، ويعفو عمَّن ظلم، ويغفرَ لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عُذر من اعتذر إليه.
وقد ندب عبادهُ إلى هذه الشِّيم الفاضلة والأفعال الحميدة - وهو أولى بها منهم وأحقَّ - وكان لهُ في تقدير أسبابها من الحِكَمِ والعواقب الحميدة ما يبهرُ العقولَ، فسبحانه وبحمده.
ومنها: انَّهُ سبحانهُ لهُ الأسماءُ الحُسنى، ولكلِّ اسمٍ من أسمائهِ أثرٌ من الآثار في الخلق والأمر، فلو لم يكن في عباده من يُخْطِيءُ ويُذنبُ ليتوب عليه ويغفر لهُ ويعفو عنهُ لن يظهر اثرُ أسمائهِ الغفور والعفوَّ والحليم والتَّواب وما جَرى مجراها.[/center]