بينما الحجاج بن يوسف الثقفي ( وكان معروفاً بالظلم والقسوة والقتل ) بينما كان جالساً في منظرة له وعنده وجوه أهل العراق أتى بصبي من الخوارج عليه له من العمر نحو بضع عشرة سنة فلما أدخل عليه لم يعبأ بالحجاج بن يوسف ولم يكترث به وإنما صار ينظر إلى بناء المنظرة وما فيها من العجائب ويلتفت يميناً وشمالاً ثم اندفع يقول : ” أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون “وكان الحجاج متكئاً فاستوى في مقعده وقال : يا غلام إني أرى لك عقلاً وذهناً أحفظت القرآن ؟ فقال الغلام :أو خفت عليه من الضياع حتى أحفظه وقد حفظه الله تعالى ! قال الحجاج : أفجمعت القرآن ؟ قال : أو كان مفرقاً حتى أجمعه ! قال الحجاج : أفأحكمت القرآن ؟ قال الغلام : أليس الله أنزله محكماً ! قال الحجاج : استظهرت القرآن ؟ فقال الغلام : معاذ الله أن أجعل القرآن وراء ظهري ! فقال الحجاج وقد ثار غضباً : ويلك قاتلك الله ماذا أقول ؟ قال الغلام : الويل لك ولقومك ، قل أوعيت القرآن في صدرك . فقال الحجاج فاقرأ شيئاً من القرآن فاستفتح الغلام : بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس (يخرجون) من دين الله أفواجاً: فقال الحجاج : ويحك.. إنهم يدخلون ! فرد عليه الغلام قائلاً : كانوا يدخلون أما اليوم صاروا يخرجون . فقال الحجاج : ولماذا ؟ قال الغلام : لسوء فعلك بهم . قال الحجاج : ويلك يا غلام ! هل تعرف من تخاطب ؟ قال الغلام : نعم شيطان ثقيف الحجاج . فقال الحجاج : ويلك ! من رباك ؟. قال الغلام : الذي زرعني . قال الحجاج : فمن أمك ؟ قال الغلام : التي ولدتني . قال الحجاج : فأين ولدت ؟ قال : في بعض الفلوات . قال الحجاج : أمجنون أنت فأعالجك ؟ قال : لو كنت مجنوناً لما وصلت إليك ووقفت بين يديك . وقال الحجاج : فما تقول في أمير المؤمنين ؟ قال الغلام : رحم الله أبا الحسن رضي الله عنه وأسكنه جنان خلده . قال الحجاج : ليس هذا ما أعني إنما أعني عبد الملك بن مروان . قال الغلام : على الفاسق الفاجر لعنة الله . قال الحجاج : ويحك ! بم استحق اللعنة أمير المؤمنين ؟ قال الغلام : أخطأ خطيئة ملأت ما بين السماء والأرض . قال الحجاج : ما هي ؟ قال الغلام : استعماله إياك على رعيته تستبيح أموالهم وتستحل دماءهم … فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال : ما تشيرون في هذا الغلام ؟ قالوا : اسفك دمه فقد خلع الطاعة وفارق الجماعة . فقال الغلام : يا حجاج جلساء أخيك فرعون خير من جلسائك حيث قالوا وهؤلاء يأمرون بقتلي إذن والله تقوم عليك أرجه وأخاهلفرعون عن موسى وأخيه : الحجة بين يدي الله ملك الجبارين ومذل المستكبرين . فقال له الحجاج : هذب ألفاظك وقصر لسانك فإني أخاف عليك بادرة الأمر وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم . فقال الغلام : لا حاجة لي بها بيض الله وجهك وأعلى كعبك ؟ فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال : هل علمتم ما أراد بقوله بيض الله وجهك وأعلى
كعبك ؟ قالوا : الأمير أعلم . فقال الحجاج : أراد بقوله بيض الله وجهك العمي والبرص وبقوله أعلى كعبك : التعليق والصلب ثم التفت إلى الغلام وقال له : ما تقول فيما قلت ؟ قال الغلام : قاتلك الله ما أفهمك . فامتزج الحجاج غضباً وأمر بقتله وكان الرقاشي حاضراً فقال : أصلح الله الأمير هبه لي . قال : هو لك لا بارك الله لك فيه . فقال الغلام : والله لا أدري أيكما أحمق من صاحبه الواهب أجلاً قد حضر أم المستوهب أجلاً لم يحضر ؟ فقال الرقاشي : استنقذتك من القتل وتكافئني بهذا الكلام . فقال الغلام : هنيئاً لي الشهادة إن أدركتني السعادة والله إن القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أرجع إلى أهلي صفر اليدين . فأمر له الحجاج بجائزة وقال يا غلام : قد أمرنا لك بمائة ألف درهم وعفونا عنك لحداثة سنك وصفاء ذهنك وحسن توكلك على الله وإياك والجرأة على أرباب الأمر فتقع مع من لا يعفو عنك . فقال الغلام : العفو بيد الله لا بيدك والشكر له لا لك ولا جمع الله بيني وبينك ثم هم بالخروج فابتدره الغلمان . فقال لهم الحجاج : دعوه فو الله ما رأيت أشجع منه قلباً ولا أفصح منه لساناً ولعمري ما وجدت مثله أبداً وعسى هو لا يجد مثلي فإن عاش هذا الغلام ليكونن أعجوبة عصره . " قيل إنه أمر بعض رجاله بأن يدس له السم فقتله ".